لكن الأمور بدأت في التغير في عام 100 قبل الميلاد أو نحو ذلك، إذ
انخفضت درجة الحرارة وازدادت معدلات سقوط الأمطار. وحينها بدأ مزيدٌ من
الناس في الانتقال لأماكن أبعد وأكثر ارتفاعاً، وهو ما يمثل بحسب
باكاباياسي، مؤشراً على الارتباك الاجتماعي الناجم عن تكرار حدوث
الفيضانات. وأضاف الرجل أن القرن الخامس اتسم على وجه الخصوص، بتحركاتٍ غير طبيعية وحادة للمستوطنات البشرية صوب أعالي الجبال.
ولذا لم تكن هناك منازل تقريباً مُقامةً في الوادي عند بدء حقبة كوفون، التي امتدت بين
القرنين الثالث والسادس الميلادييْن، وكان تغير المناخ بمثابة العامل
الحفاز الذي أدى لحدوث هذه العملية، لكن العوامل الاجتماعية سرعان ما ظهرت كنتيجةٍ لذلك، وقادت بدورها إلى تغيراتٍ إضافية.
وبحسب باكاباياسي،
استغل الوجهاء والزعماء المحليون الأزمات البيئية لإعادة ترتيب البنى الاجتماعية، إذ بدأوا السيطرة على مسألة إدارة حقول الأرز على سبيل المثال.
وظهرت فئةٌ متخصصةٌ من العاملين في مجال الحدادة، وبدأت إقامة مقابر
ضخمةٍ يبلغ طولها نحو 200 متر، ما شكّل انحرافاً حاداً عن طبيعة الحياة
التي كانت سائدةً من قبل، ومثّل كذلك مؤشراً على شكل التسلسل الاجتماعي
الهرمي الآخذ في التبلور في المجتمع الياباني.
ومع هدوء الأمطار
وتراجع معدلات هطولها أخيراً في القرن السابع، شرع الناس في العودة إلى المناطق المنخفضة، ودخلت البلاد ما يُعرف بـ "حقبة أسوكا"، التي بدأ فيها
انتشار البوذية، وسُنت خلالها القوانين، وتشكلت الدولة في اليابان في
مراحلها المبكرة.
لا توجد الكثير من الإشارات المكتوبة في عصور التاريخ القديم لليابان، وهو ما يختلف عن الوضع في السنوات اللاحقة لذلك،
التي تميزت بوجود عددٍ متزايدٍ من المراسلات والسجلات، التي يمكن للمؤرخين الانتفاع بها لتتبع التقلبات الاجتماعية التي نجمت عن تغيرات المناخ.
وبالنظر
إلى ارتفاع معدلات الأمية في اليابان في الماضي، شكّل وجود وثائق تعود إلى القرن الثامن أمرا بالغ الأهمية. وعلى سبيل المثال، تخبرنا الوثائق التي
تعود إلى فترة إيدو (بين عامي 1603 و1867) بأن اليابان اعتمدت على الاقتصاد
الزراعي حينذاك.
وتفيد الوثائق بحدوث تراجعٍ مستمرٍ في الأسعار خلال تلك الفترة، وهو ما أدى لظهور أول سوقٍ معروفٍ للعقود الآجلة في العالم.
ويرى غالبية المؤرخين أن انخفاض معدلات النمو السكاني في اليابان خلال الحقبة
ذاتها أدى لوجود فائضٍ في المعروض من الأرز، ما أفضى لظهور سوقٍ فريدٍ من
نوعه لهذا النوع من الحبوب.
لكن البيانات الخاصة بالمناخ التي جمعها
ناكتسكا تشير إلى أن الظروف المناخية التي كانت مواتية لزراعة الأرز أسهمت
بالقدر الأكبر في حدوث الفائض، الذي أدى لانخفاض الأسعار.
هنا
يمكننا الاستعانة بما يقوله ياسو تاكاتسكي، وهو مؤرخٌ اقتصاديٌ يعمل في جامعة كوبه اليابانية، ويدرس مقاييس المؤشرات الاقتصادية المتعلقة بالمراحل
المبكرة للمجتمع الياباني الحديث. ويقول تاكاتسكي في هذا الصدد إن العرض
وحده هو ما كان يحدد أسعار الأرز في تلك الفترة، نظراً لأن الطلب اتسم خلالها بالاستقرار، وكان لليابان فيها اقتصادٌ مغلقٌ، مضيفاً: "وما الذي
كان يحدد حجم المعروض من الأرز؟ إنه المناخ بكل وضوح".
وتبين لتاكاتسكي كذلك أن حدوث كارثةٍ معزولةٍ لمرة واحدة - من قبيل اجتياح فيضانٍ
مثلاً لمنطقةٍ واحدةٍ من اليابان - لم يؤثر على أسعار الأرز أو يسبب
مجاعة، على عكس ما نجم عن حدوث أنماطٍ غير اعتيادية من الظواهر الجوية وتقلبات المناخ سادت مختلف أنحاء البلاد.
ويقول هذا المؤرخ المتخصص في الجانب الاقتصادي إن بعض التجار والسماسرة والمضاربين أقدموا على إجراء
"صفقاتٍ كبرى في المشتقات، في الحالات التي فشلت فيها منظومة اقتصاد السوق
في التخفيف من الهزات الناجمة عن التغير المناخي، وهو ما أدى للمبالغة بشدة
في سعر الأرز".
وأدى تلهف هؤلاء على أن يجنوا أرباحاً على حساب
السكان، إلى دفع الحكام العسكريين للبلاد في تلك الحقبة، إلى التدخل وكبح
جماح تقلبات الأسعار بهدف إنقاذ رعاياهم من الموت جوعاً. وفي بعض الحالات، ذهب هؤلاء الحكام إلى حد إلقاء بعض التجار والمضاربين وراء القضبان.
ويقول تاكاتسكي إن معرفة الظروف المناخية التي سادت في الماضي، تجعل تصورنا عن التاريخ أكثر ثراءً، بما قد يفيد كذلك في توقع كيف يمكن أن يكون
رد فعل الأسواق على أي شحٍ في المواد يحدث في المستقبل جراء التغير
المناخي.
ونعود إلى ناكتسكا الذي يرى أن أحد أبرز الدروس المستفادة من الاستخلاصات التي توصل إليها وفريقه، يتمثل في أن الناس يعتادون سريعاً
الظروف المواتية شريطة أن تستمر لفترةٍ كافيةٍ، أي لما هو أكثر من 10 أو 20 عاماً مثلاً، وليس لعامٍ أو عامين.
ففي هذه الحالة "يزيد الناس
نسلهم، ويغيرون أنماط حياتهم ومستويات معيشتهم، ويعتادون تناول الأرز
يومياً". وشير إلى أنه عندما تنتهي هذه الأوقات الجيدة فجأة، لا يستطيع
المجتمع التكيف على ذلك بسرعةٍ كافية، ويشيع الخراب غالباً في صورة مجاعات.
كما يصبح المجتمع بيئةً خصبةً بشكل أكبر لأن يشهد نشوب نزاعات، خاصة لو لم تكن التأثيرات البيئية موزعةً بشكلٍ متساوٍ على مختلف أنحاء البلاد، ما يمزق السكان بين من يملكون ومن لا يملكون. ومن بين الأمثلة على
ذلك، تصاعد معدلات الجريمة والاقتتال الداخلي في بعض الأقاليم جراء حدوث
فيضاناتٍ عارمةٍ فيها، أواخر القرن الثالث عشر وخلال القرن التالي لذلك.
ويقر
ناكتسكا بأن وضع العالم الآن اختلف، إذ بات منفتحاً على بعضه بعضاً على
نحوٍ أكبر، وأصبح كذلك أكثر تطوراً من الوجهة التكنولوجية مما كان عليه قبل قرون. فـ "الآن، يمكننا إذا انخفضت درجة الحرارة، أن نستورد الأرز من دولٍ
أجنبية، ما يقينا خطر التضور جوعاً".
لكن ناكتسكا يقول إننا نبقى في كل الأحوال بشراً تكبلهم حقيقة أن
التغيير يُحْدِثُ توتراتٍ وضغوطاً، تقود بدورها إلى اضطراباتٍ اجتماعية.
ويمكن القول إنه من المرجح أن تتفاقم خلال السنوات المقبلة مشاعر الاستياء
والخوف المتراكمة على خلفية التغيرات الثقافية والمناخية والاقتصادية والديموغرافية، وهو ما يزيد من جاذبية الحكم السلطوي والشعبوي في أعين
الناس.
من ناحيةٍ أخرى، هناك أمثلةٌ معروفةٌ بالفعل - على التأثيرات
التي تُخلّفها التغيرات المناخية التي تحدث كل بضعة عقود في تاريخ الأمم -
تندرج خارج نطاق الدراسة التي أجراها ناكتسكا ورفاقه. من بينها ما كشفه باحثون في الولايات المتحدة ومنغوليا مؤخراً من أن صعود جنكيز خان للسلطة
وغزوه للصين تزامنا مع فترةٍ هطلت فيها الأمطار بغزارةٍ استثنائيةٍ لمدة 15
عاماً، وهو ما وفر له فائض الثروة الحيوانية، الذي احتاجه لدعم جيشٍ شكله
في تلك الفترة.
ويأمل ناكتسكا وزملاؤه في أن تلهم دراستهم باحثين آخرين في شتى أنحاء العالم، لإجراء دراساتٍ مماثلةٍ لتحديد ما إذا كانت
التغيرات المناخية، قد أدت إلى إغراق المجتمعات الغابرة في الاضطرابات، أم
أن هذه التجمعات البشرية قد نجحت في مواجهة تلك التقلبات بنجاح.
وفي
ظل ما هو متوقعٌ من أن يشهد مناخ الأرض تغيراتٍ على مستوياتٍ غير مسبوقة خلال العقود المقبلة، ربما يحمل لنا الماضي في طياته مفاتيح من شأنها
تعريفنا بطبيعة ما ينبغي أن نُعِدَ أنفسنا لمواجهته.
وفي نهاية المطاف، يقول ناكتسكا: "يتضمن التاريخ الإنساني الكثير من الأمثلة، التي
يمكن أن نستخلص منها دروساً مشتركةً ذات صلةٍ بالتغير البيئي العالمي
المعاصر. والدرس الماثل أمامنا الآن هو أنه يتوجب علينا التحضير لتقليص أي
أضرارٍ أو خسائر".
Nessun commento:
Posta un commento